الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمقام الذي نزلت فيه هذه الآية- بل السورة كلها- يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط، فهي في الحرب، وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالكفار. وكل ما يصح في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية.وقال الأصم: الآية محكمة، والمراد: الولاية بالنصرة والمظاهرة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا} هذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم- وهي دار الحرب والشرك- بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار.وكان حكم غير المهاجرين أنه لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم. والولاية حقّ مشترك على سبيل التبادل، ولكنّ اللّه خص من عموم الولاية المنفية الشامل لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحد فقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} فأثبت لهم حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم.وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم، ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة. فقال: {إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين، دون المعاهدين، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم، لأنّ الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود.وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل عليكم عقابه.{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} أي في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضهم بعضا. وقيل: إنّ الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار. وفي إرث ملل الكفر بعضهم لبعض.وقول بعض المفسرين: إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب غير مسلّمين، لأنّ صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة. والأصح عند الشافعية أنّ الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عند مالك وأحمد. وعنهما التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية.وعن أبي حنيفة لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة.وعند الشافعية لا فرق. وعندهم وجه كالحنفية، {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} أي إن لم تفعلوا ما ذكر، وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} تحصل فتنة عظيمة فيها: هي ضعف الإيمان، وظهور الكفر بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم، واضطهادكم في دينكم، لصدكم عنه وَفَسادٌ كَبِيرٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن، فالمراد فساد كبير فيها. وقيل: مفسدة كبيرة في الدين والدنيا.{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} هذا ليس مكررا مع ما تقدم، لأنّ مساق الأول لإيجاب التواصل بينهما، ومساق الثاني الثناء عليهم، والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حقّ الإيمان وأكمله، دون من أقام بدار الشرك مع حاجة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين إلى هجرته، وأعاد وصفهم الأول لأنهم به كانوا أهلا لهذه الشهادة، وما يليها من الجزاء المذكور في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لا يقدر قدرها {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تبعة له ولا منة فيه.{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ} هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد، وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، أو عن نزول هذه الآيات. فيكون الفعل الماضي آمَنُوا وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل:عن يوم بدر، وقيل: عن صلح الحديبية، وكان سنة ست. وجعلهم تبعا لهم وعدهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين.{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} أولوا الأرحام أصحاب القرابة، وهو جمع رحم ككتف وقفل. وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها، ويسمّى به الأقارب، لأنهم في الغالب من رحم واحد. وفي اصطلاح علماء الفرائض: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.والمعنى المتبادر من نص الآية أنها في ولاية الرحم والقرابة بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة. فهو عزّ وجلّ يقول: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون. وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة. ثم في كل عهد هم أولى بذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القرابة في هذه الآية وغيرها.وجملة القول إنّ أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها. فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجر والأنصاري من المؤمن الأجنبي. وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم. ثم ختم اللّه هذه السورة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو تذييل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبيّن أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها.فالمعنى: أنه شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية.ما يستفاد من الآيات:1- ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام.2- عدم ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام إلا على من يقاتلهم لأجل دينهم، فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه.3- ولاية الكفار بعضهم لبعض.4- أننا إذا لم نمتثل ما شرعه اللّه من تحقيق ولاية النصرة بيننا بأن والينا الكفار أدى ذلك إلى ضعفنا، وظهورهم علينا.5- أن ما شرعه اللّه سبحانه من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب ناشئ عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية واللّه تعالى أعلم. اهـ.
.فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة الأنفال:كانت هزيمة أحد مفاجأة لأصحابها، وكان نصر بدر مفاجأة لأصحابه. والمفاجآت كلها، سارها وضارها أصدق الامتحانات لكشف معادن النفوس ومعرفة المخبوء فيها..! وقد جاءت سورة الأنفال في أعقاب انتصار المسلمين في بدر لتبين عمل القدر وجهد البشر. فأبانت أن النصر الذي أعز الله به المسلمين كان مكافأة سماوية على صبر السنين الماضية. وأن الرجال الذين خاضوا المعركة كانوا أدوات لتحقيق الآية الكريمة {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز}. ولذلك بدأت السورة فقطعت تعلق المسلمين بالغنائم، وجعلت توزيعها لله ورسوله. فلا معنى للدعوى ولا للنزاع في خير ساقه الله إلى طائفة من عباده {ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}! وكان الاهتمام الأول لإظهار أن الرجولة مواقف، وأن للإيمان أمارات تبعث على سير معينة {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم...}. تأمل في آيات الإيمان هنا إنها ذكر ووجل وقراءة وتوكل ونفقة.. لكننا في آخر السورة نجد أن للإيمان الحق أمارات أخرى. قال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا} إنه هجرة وجهاد وإيواء ونصرة، هذا هو الإيمان الحق. وفي سورة أخرى يقول تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.هنا تنويه باليقين الذي لا يتزلزل والإنفاق الذي لا ينقطع، إنه الجهاد بالنفس والنفيس.. وفي سورة أخرى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه}. ظاهر من هذه التعريفات الكثيرة أن الرجولة مواقف شتى لا موقف واحد، وأن للإيمان مطالب مفروضة تتباين بتباين الأحوال والأوقات.. وأنه لا يجوز أن يتخلف مطلب في حينه ومناسبته.. وأن المسلمين إذا قيل لهم دعوا أمر الغنائم الآن فسوف يحكم الله فيها وجب أن يستجيبوا فمصلحتهم في الاستسلام لأمر الله. وقد أمرهم رسول الله بالتصدى للمشركين في المعركة التي فرضت عليهم بغتة فماذا حدث؟. كان فريق منهم يحسب القتال خطة سيئة، ويرى أن المسلمين لم يستعدوا له. ومن الممكن الانتظار واستنفار بقايا المسلمين في المدينة ليواجهوا جميعا المعركة التي لم تكن في الحسبان. لكن النبي الكريم علم أن مكانة الإسلام ستهتز إذا لم يقبل التحدى، وشعر بأن الله لن يخذله في هذا الموقف المحرج وعرض الموقف على جماعة المقاتلين فقرروا منازلة العدو! {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون}. كان النبي عليه الصلاة والسلام مؤملا في أن الله لن يرد المسلمين خائبين وقد أشعر بهذا الأمل حين قال: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} العير أو النفير {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} يحبون الغنيمة الباردة! ولكن الله يريد أمرا آخر كشف عنه القتال وجعل الأحداث تتدافع إليه {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون}. وطبائع الناس إذا دهمتهم محنة فوق طاقاتهم أن يفزعوا إلى الخالق الأعلى مستغيثين. وذلك ما وقع عندما رأى المسلمون إعداد العدو وتفوقه عددا وسلاحا.{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}.وملك واحد يكفى لحصد المشركين، ولكن الله أراد طمأنة عباده بذكر العدد، {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}. وقد اجتهد النبي عليه الصلاة والسلام في الدعاء: «اللهم نصرك الذي وعدتنى! اللهم إن تهلك هذه العصابة من المؤمنين فلن تعبد في الأرض». وكان يناشد الله بحرارة واستغراق رافعا ذراعيه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه وكان أبو بكر خلفه يقول: يا رسول الله بعض مناشدتك لربك، إن الله منجز ما وعدك.. ولم ينته الرسول من دعائه حتى أعلمه الله بمصارع القوم.. ويتساءل العلماء هنا عن قلق أبى بكر في الغار- أثناء الهجرة- حتى كان الرسول هو الذي يثبته، وعن موقفه الواثق في معركة بدر يطمئن الرسول ويهدئه؟ والجواب أن عبودية الرسول أوضح وأرسخ من عبودية الأمة كلها. كان في الهجرة فارغ اليد من أسباب النصرة فاطمأن إلى أن الله معه يرعاه ويحفظه. أما في بدر فمعه جيش، وإن كان ضعيفا فقد يعتمد عليه! فرأى النبي الكريم أن يبرأ من حوله وطوله، وأن يلجأ إلى الدعاء طالبا من الله النجدة، منتظرا منه وحده النصر.. وهنا تدخلت أسباب السماء، فنزل! مطر ثبت الرمال تحت أقدامهم، ونامت العيون القلقة، واختفت الوساوس. وربط الله على القلوب ودب الرعب في نفوس الكثرة المشركة، فقاتلت أسوأ قتال. واختفت صفوفها تحت مطارق هزيمة لم تخطر ببال! {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}. لكن النصر الإلهى لا يستحقه من يفرط في الأسباب المعتادة، وأول هذه الأسباب شجاعة تغرى بالإقدام ما تهاب الردى، وتؤثر ما عند الله فهى تركل الدنيا رغبة في الآخرة. ونحن بلا ريب بشر تربطنا بالحياة أواصر متينة، ويعجبنى تصوير فرسان العرب لهذه المواقف وهم مقبلون على الموت! يقول عمرو بن معدي كرب:ويقول: ويقول آخر:
|